كيف ينتقل الطبيب الألماني من مرحلة الدراسة على مقاعد الجامعة إلى مرحلة التخصص؟ وما هي طبيعة نظام التخصص في ألمانيا؟ وهل تنطبق نفس الشروط والأحكام على الطبيب الأجنبي؟
في هذا الموضوع سندخل في موضوع التخصص الطبي في ألمانيا لنناقش طبيعة هذا النظام وكيفية الدخول فيه. المعلومات ستكون موجهة للأطباء والطلاب الذين ليس لديهم فكرة سابقة ويفكرون بالقدوم إلى ألمانيا للتخصص والعمل.
تابعوا معي قصة ماركوس وديمة!
متطلبات الدخول في التخصص الطبي في ألمانيا
هل هناك مقاعد حقيقية للتخصص في ألمانيا؟
العوامل التي تلعب دوراً في الحصول على التخصص
المراكز المؤهلة لتقديم التخصص الطبي
الخلاصة
ماركوس وديمة هما اثنان من بين آلاف الأطباء الذين تخرجوا حديثاً من كلية الطب ويرغبان الآن بالبدء بمشوار التخصص الطبي في ألمانيا، ولكن لكل منهما قصة مختلفة.
ماركوس هو شاب ألماني درس في ألمانيا وتخرج للتو من كلية الطب. بعد تخرجه من الجامعة حصل ماركوس على شهادة الأبروباتسيون. لغته الأم هي الألمانية وهو يرغب بإتمام التخصص في مجال طب الأطفال.
ديمة هي شابة عربية وصلت إلى ألمانيا منذ فترة. تمكنت ديمة من تجاوز جميع الامتحانات بنجاح وحصلت مؤخراً على شهادة الأبروباتسيون. لغتها الألمانية لا تزال تتحسن والجراحة هي حلمها! ترغب ديمة بإتمام التخصص في مجال جراحة الأطفال.
تعرفت ديمة على ماركوس في قسم الأطفال في إحدى المستشفيات الجامعية. كان ماركوس لا يزال يخضع للتدريب في السنة الأخيرة من كلية الطب (praktisches Jahr)، وكانت ديمة تقوم بفترة تدريبية كطبيب متفرج أو مراقب (Hospitation).
الهوسبيتاتسيون (Hospitation) هو مصطلح طبي يستخدم في ألمانيا لوصف الفترة التدريبية التي يقوم بها طبيب لدى جهة معينة بدون أن يعمل لديها. ويدعى الطبيب في هذه الحالة باسم هوسبيتانت (Hospitant).
على سبيل المثال يمكن لطبيب ألماني استشاري أن يقوم بإجراء هوسبيتاتسيون لمدة أسبوع في مستشفى آخر للاطلاع على إجراءات معينة أو تعلم تقنيات خاصة لتطبيقها في المستشفى الذي يعمل به. وبذلك فهو يذهب إلى المستشفى ويداوم هناك بموجب اتفاق أو عقد بسيط بين الطرفين.
كذلك حين يرغب طبيب ألماني أو أجنبي بالعمل في قسم معين ويحصل على الموافقة المبدئية فقد يدعوه رئيس القسم للقدوم إلى هذا القسم لمدة يوم أو يومين للاطلاع على الوضع بشكل أقرب ثم إتمام الاتفاق في حال كان الوضع مقبولاً للطرفين.
أما بالنسبة للطبيب الأجنبي حديث الوصول إلى ألمانيا فإن الهوسبيتاتسيون هو عادة فترة تدريبية تتراوح بين عدة أسابيع وعدة أشهر يقضيها الطبيب في المستشفى بهدف التعرف على النظام الطبي وتحسين اللغة.
فإذاً ماركوس وديمة الآن في نفس الوضع تقريباً: لديهما الترخيص الدائم للعمل كأطباء جدد ويريدان أن يدخلا في نظام التخصص الطبي في ألمانيا. فكيف يتم ذلك؟
التخصص الطبي ليس دراسة وإنما عمل. ويتحقق ذلك في جميع دول العالم وليس فقط في ألمانيا. والتخصص في ألمانيا هو ليس دراسة أكاديمية على مقاعد الجامعة، وإنما هو عمل كطبيب ممارس بموجب عقد عمل بين الطبيب والمستشفى.
وبالتالي فإن نظام التخصص الطبي في ألمانيا يعتمد على تشغيل الأطباء في المستشفيات، بحيث يقوم الطبيب بأداء مسؤوليات معينة حسب مجال تخصصه في القسم الذي تم توظيفه فيه.
وبالمقابل يقدم المستشفى للطبيب إمكانية التدريب في القسم إلى أن يتأهل الطبيب للحصول على الاختصاص المطلوب، وبدون أن تترتب على الطبيب تكاليف أو أقساط معينة، فهو لا يدرس في معهد أو جامعة! بل إنه يحصل على راتب شهري مقابل عمله.
بهذه الطريقة يتوجب على من ديمة وماركوس الآن العثور على قسم يحتاج إلى أطباء ومراسلة هذا القسم. حين يوفق أي منهما في العثور على العمل في القسم الذي يريده فيمكنه توقيع عقد العمل مع المستشفى والبدء بالعمل والتخصص!
حتى تقوم المستشفى بتوقيع عقد عمل مع الطبيب بهدف العمل والتخصص، فينبغي أن يتوفر لدى الطبيب ترخيص للعمل في ألمانيا، أي عملياً شهادة الأبروباتسيون (Approbation).
هذا الأمر محقق بشكل تلقائي لدى خريجي الجامعات الألمانية، حيث يحصلون على شهادة الأبروباتسيون بعد التخرج كما ذكرنا بالتفصيل في مقالة دراسة الطب في ألمانيا. أما بالنسبة للأطباء الأجانب فالأمر مختلف.
للحصول على شهادة الأبروباتسيون (ترخيص العمل الدائم) يتوجب على الطبيب الأجنبي تجاوز ثلاث مراحل:
امتحان المعرفة الطبية (Kenntnisprüfung)أو امتحان المعادلة الطبية (Gleichwertigkeitsprüfung)أو امتحان الأبروباتسيون هي تسميات مختلفة لنفس الاختبار الذي يتقدم إليه الكثير من الأطباء الأجانب في ألمانيا. وهو يقابل الامتحان الوطني الثالث لدى طلاب الطب في الجامعات الألمانية (للمزيد من المعلومات انظر مقالة نظام دراسة الطب في ألمانيا).
إذا أظهر التحقق من أوراق الطبيب الأجنبي أن دراسته في كلية الطب خارج ألمانيا معادلة للجامعات الألمانية فيتم منحه الترخيص الدائم أو شهادة الأبروباتسيون بشكل تلقائي بشرط تجاوز امتحاني اللغة العامة واللغة الطبية. أما إذا لم تكن دراسته معادلة فيتوجب عليه إثبات معرفته الطبية من خلال التقدم لامتحان التعديل المؤلف في الوقت الحالي من امتحان عملي ومقابلة.
فإذاً حين يتجاوز الطبيب الأجنبي هذه المراحل الثلاثة فهو يحصل على ترخيص العمل الدائم ويحق له البدء بالعمل كطبيب. بالنسبة لديمة فقد تجاوزت جميع هذه الامتحانات بنجاح وتمكنت من الحصول على شهادة الأبروباتسيون. والآن لديها ترخيص يؤهلها للعمل وبالتالي البدء بالتخصص في ألمانيا.
ستمر هذه المصطلحات معنا بشكل متكرر على الموقع حيث تم شرحها لأكثر من مرة، خصوصاً في المقالة المفصلة حول الهيئات التي تنظم عمل الأطباء في ألمانيا، وكذلك في المقالة التي ناقشنا فيها خطوات السفر إلى ألمانيا للأطباء.
نظراً لطول فترة الإجراءات اللازمة لدراسة الأوراق والتقدم لامتحان المعرفة الطبية فيمكن للطبيب الأجنبي حالياً الحصول على ما يدعى بترخيص العمل المؤقت (Berufserlaubnis)(ويدعى اختصاراً البيروف)، وذلك بشرط نجاحه في امتحاني اللغة الألمانية العامة واللغة الألمانية الطبية.
وترخيص العمل المؤقت هو السماح بمزاولة مهنة الطب في ألمانيا لفترة مؤقتة تبلغ سنتين من الزمن. يمكن للطبيب خلال هاتين السنتين البدء بالعمل والحصول على دخل مادي وتحسين لغته الألمانية وجمع بعض الخبرة. ولكن هذه الفترة لا تحتسب من ضمن التخصص، وذلك لأن التخصص حسب القانون الألماني يحتسب بدءاً من الحصول على الترخيص الدائم: شهادة الأبروباتسيون.
وبذلك يتوجب على الطبيب خلال هاتين السنتين النجاح في امتحان التعديل للحصول على ترخيص العمل الدائم. بعد الحصول على شهادة الأبروباتسيون يتابع الطبيب عمله بشكل طبيعي ويبدأ احتساب التخصص ابتداءً من تاريخ منح الشهادة.
في معظم البلاد العربية وفي الكثير من الدول الغربية يكون هناك عدد محدد من المقاعد المخصصة للتخصص الطبي في كل مجال من المجالات، والتي يتم تحديدها حسب الحاجة للأطباء في المجالات المختلفة.
ويتم عادة منح هذه المقاعد بموجب مسابقة أو مفاضلة: يقوم الأطباء الراغبون بالتخصص بالتقدم بأوراقهم إلى هذه المسابقة. وحسب درجات الطالب في كلية الطب (وأحياناً بعض العوامل الأخرى) يتم توزيع مقاعد الاختصاص على الأطباء المتقدمين لهذه المسابقة.
وفي بعض الدول يتوجب على الطبيب وضع رغبات متعددة في الطلب الذي يقدمه. إذا لم يحصل على الرغبة الأولى يتم النظر للرغبة الثانية، وإن لم يكن فللرغبة الثالثة وهكذا.
وعادة ما تكون هناك صعوبة في الحصول على الاختصاصات العليا، مثل الجراحة القلبية وجراحة الأعصاب، وذلك لأنها تحتاج إلى درجات مرتفعة.
أما في ألمانيا فإن الوضع لا يسير هكذا على الإطلاق! طريقة الدخول في نظام التخصص مختلفة بشكل جذري عما هو متبع في هذا الأنظمة. لتوضيح الموضوع سنعود إلى قصة ماركوس وديمة!
عمل ماركوس كمتدرب في قسم الأطفال في المستشفى الجامعي (Uniklinikum)حين كان في السنة الأخيرة من كلية الطب. وخلال وجوده هناك تعرف بطبيعة الحال على الأطباء الموجودين في القسم وتعلم منهم الكثير!
علم ماركوس خلال تواجده في القسم أن اثنين من الأطباء كانوا في السنة الأخيرة من التخصص وأنهما ربما سيتركان القسم قريباً. في الوقت الذي تخرج فيه ماركوس من الجامعة كان أحد هذين الطبيب قد ترك القسم، وبالتالي أصبحت هناك وظيفة شاغرة.
لقد حانت الفرصة!
قام ماركوس بإرسال طلب توظيف (Bewerbung)إلى رئيس القسم. كتب ماركوس في هذا الطلب أنه مهتم جداً باختصاص طب الأطفال وأن الفترة التدريبية التي قضاها في القسم زادت من حبه لهذا التخصص ورغبته بالعمل فيه.
حين يرغب طبيب بالعمل في مستشفى معين في ألمانيا فعليه أن يرسل طلباً للتوظيف يدعى باسم بيفيربونغ (Bewerbung).يحتوي هذا الطلب على رسالة قصيرة يشرح الطبيب فيها رغبته بالعمل في هذا القسم.
يحتوي الطلب بالإضافة إلى هذه الرسالة على بعض الأوراق الأخرى، وأهمها السيرة الذاتية للطبيب وشهادة الأبروباتسيون بالإضافة إلى أي شهادات أو مؤهلات أخرى مميزة قد يتمتع بها.
بعد استلامه لطلب التوظيف قام رئيس القسم بدعوة ماركوس إلى مقابلة شخصية. هذه المقابلة تدعى بالألمانية Vorstellungsgespräch، كلمة طويلة ولفظها صعب!
طبعاً رئيس القسم كان قد تعرف سابقاً على ماركوس خلال الفترة التدريبية التي قضاها في المستشفى وكان الانطباع عنه إيجابياً. ومن خلال المقابلة تبين لرئيس القسم أن ماركوس شاب طموح ونشيط وسيكون قادراً على أداء المسؤوليات الموكلة إليه في القسم.
بعد عدة أيام وصلت إلى ماركوس رسالة بالبريد تعلمه بالموافقة على التعاقد معه. كما تم إرسال عقد العمل إليه ليقرأ بنوده ويوقع عليه. وبموجب هذا العقد يمكن لماركوس البدء بالعمل في أول يوم من الشهر القادم. وهكذا حصل ماركوس على مكان للتخصص!
نقول بالعربية الطبيب المقيم أو الطبيب النائب، ونقول بالإنجليزية resident doctor. أما بالألمانية فإن المصطلح المستخدم هو الطبيب المساعد (Assistenzarzt)،وذلك لأنه لا يعمل بشكل مستقل وإنما تحت إشراف الاختصاصيين والاستشاريين في تخصص معين.
وهناك تسمية أخرى أيضاً هي الطبيب أثناء التخصص (Arzt in Weiterbildung أو اختصاراً AiW). وكثيراً ما تستخدم هذه التسمية في عقود العمل عوضاً عن عبارة الطبيب المساعد. من الجدير بالذكر أن كلمة Weiterbildung هي الكلمة المستخدمة في ألمانيا لوصف التخصص الطبي، وليس كلمة specialization أو specialist training كما هو الحال في اللغة الإنجليزية.
فإذاً في ألمانيا لا يوجد عدد محدد من مقاعد التخصص، وكذلك لا توجد مسابقات للحصول على التخصص، كما أنه لا يتم القبول بموجب الدرجات في كلية الطب أو بناءً على امتحانات قبول معينة كما في بلادنا. كل هذه الأمور ليس لها أي دور في الحصول على القبول أو في تحديد نوعية الاختصاص.
وإنما الموضوع هو ببساطة عرض وطلب حسب توفر الفرص في سوق العمل. ولكن كيف يتم ذلك؟ سأشرح لكم الموضوع أكثر.
لنقل إن قسم جراحة المخ والأعصاب في أحد المستشفيات بحاجة لأطباء مقيمين لتسيير شؤون العمل والمرضى ومساعدة الأطباء الاستشاريين في العمل اليومي، سواءً في الإسعاف أو أقسام المرضى أو العمليات.
يقوم هذا القسم بإعلام إدارة المستشفى التي تنشر إعلانات بهذا الخصوص، سواءً على موقع المستشفى أو على المواقع الإلكترونية الأخرى الخاصة بإعلانات التوظيف، أو في المجلات الطبية: نحن بحاجة لطبيب للعمل كطبيب مقيم في الجراحة العصبية!
هل شاهدت موقع الإعلانات أعلاه؟ ستجد فيه كلمة شتيله (Stelle)،وهي تعني فرصة عمل، تماماً مثل كلمة job باللغة الإنجليزية. وردت الكلمة في الإعلان بصيغة الجمع (Stellen).
حين يعرف الأطباء الذين يبحثون عن عمل في مجال الجراحة العصبية بوجود فرصة عمل في هذا القسم من خلال الإعلانات أو ربما من خلال معارفهم فيمكن لهم مراسلة المستشفى وإرسال طلب التوظيف.
يقوم رئيس القسم أو الشيف أرتز (Chefarzt)بإجراء مقابلة مع الأطباء المتقدمين ثم يختار من يراه مناسباً بناءً على شهاداته ومؤهلاته وشخصيته. في الواقع لن ينظر الشيف على الإطلاق إلى معدل تخرجك المكتوب في السيرة الذاتية!
في النهاية يختار الشيف من يراه مناسباً للوظيفة ويتم إعلامه بقبوله والاعتذار من باقي الأطباء. بعد إتمام بعض الإجراءات الروتينية التي تتضمن توقيع عقد العمل وبعض الأوراق يمكن للطبيب البدء بالعمل، أي التخصص!
إن إحدى المزايا المهمة للتخصص في ألمانيا هي أن أداء الطالب خلال دراسته الجامعية ليس له أي علاقة بفرصة الحصول على التخصص في ألمانيا أو في اختيار التخصص الذي يرغب به الطبيب في ألمانيا. وهذا يعني أن جميع العوامل التالية ليس لها أي تأثير على فرصة الطبيب في ألمانيا:
في الواقع كل ما يهم في ألمانيا حالياً هو أن تكون متخرجاً من كلية الطب وتكون لغتك الألمانية جيدة. وأي مؤهلات أخرى تحضرها معك فهي ستسهل عليك الطريق وتعطيك فرصة أكبر مقارنة بغيرك. أما الحصول على التخصص المطلوب فهو متعلق بالعرض والطلب كما ذكرنا في المقالة.
نعود إلى قصتنا مرة أخرى. قامت ديمة بإرسال طلب توظيف إلى قسم جراحة الأطفال في نفس المستشفى الجامعي الذي كانت فيه. بعد أيام حصلت على رسالة تتضمن موعداً للمقابلة الشخصية.
كانت ديمة خلال المقابلة مرتبكة بعض الشيء، فهي لا تزال غير قادرة على التكلم بطلاقة باللغة الألمانية، وتعاني من صعوبة في العثور على الكلمات.
في نهاية المقابلة أخبرها رئيس القسم أن القسم حالياً ليس بحاجة لأطباء مقيمين فهناك عدد كافٍ منهم. ومن غير المتوقع أن يترك أحد منهم خلال الأشهر القادمة على الأقل. ونصحها بالبحث عن فرصة عمل في مكان آخر.
فإذاً في الكثير من الأحيان يتم دعوة الطبيب إلى مقابلة العمل وبعد ذلك يتم الاعتذار منه. يحدث ذلك حين يتقدم عدة أطباء للوظيفة. يقوم رئيس القسم باختيار طلبات التوظيف الأفضل وإجراء مقابلات مع الأطباء ثم اختيار واحد منهم، والذي يكون بنظره هو الأنسب.
في حالات أخرى لا يكون القسم بحاجة إلى أطباء ولا تكون هناك إعلانات حول وظيفة شاغرة. ولكن حين يصل طلبُ توظيف إلى رئيس القسم فقد يطلب مقابلة الطبيب. وإذا وجده مميزاً (لغة ألمانية ممتازة، خبرة سابقة) فقد يوظفه على الرغم من عدم الإعلان عن شاغر.
ربما حصلت ديمة على الوظيفة لو كانت لغتها الألمانية أفضل أو لو كانت لديها خبرة سابقة في ألمانيا. في هذه الحالة كان من الممكن لرئيس القسم أن يضمها إلى الفريق حتى لو لم يكن القسم بحاجة حقيقية لطبيب إضافي.
أريد أن أكرر أن الحصول على أول عمل في ألمانيا هو الأصعب، وهي إحدى سلبيات التخصص والعمل الطبي في ألمانيا. بمجرد أن تتوفر لديك الخبرة وتتحسن لغتك فلن تعاني من صعوبة كبيرة في الانتقال من مكان لآخر.
الكثير من المستشفيات تكون بحاجة لأطباء ولا يتم الإعلان عن ذلك. السبب هو إما أن هذه الحاجة طفيفة ويتم التعويض عنها بعض الشيء من خلال الأطباء الموجودين، أو لتوفير مصاريف الإعلانات (والتي تعتبر مرتفعة في ألمانيا).
وهنا يأتي دور المبادرة بطلب التوظيف (Initiativbewerbung)من طرف الطبيب. ماذا يعني ذلك؟ حين يعتقد الطبيب بأن لديه مؤهلات جيدة وفرصة جيدة للحصول على عمل في أحد الأقسام، فهو يبادر بإرسال طلب التوظيف بدون أن تكون هناك إعلانات أو حاجة للأطباء في القسم. وفي هذه الحالة يمكن أن يتم الاعتذار منه، ولكنه يمكن أن يحصل على العمل إن كان محظوظاً!
كما شاهدنا في قصة ماركوس وديمة فإن هناك الكثير من العوامل التي تلعب دوراً في الحصول على وظيفة في ألمانيا، وبالتالي ضمان مكان للتخصص في المجال المطلوب.
في الواقع العامل الأهم هو مدى حاجة القسم للأطباء! انظر معي هذا المثال الشائع جداً والذي يتكرر دائماً في ألمانيا.
أحد أقسام النساء والولادة الكبيرة لديه سبعة أطباء مقيمين يتخصصون في هذا القسم. رئيس القسم يرغب أيضاً بتوظيف طبيب ثامن حتى يصبح عدد الأطباء كافياً لتغطية العمليات الكثيرة وقسم الإسعاف والعيادات وأقسام المرضى بدون ضغط على الفريق.
في لحظة معينة وبدون سابق إنذار يخسر القسم ثلاثة أطباء في الوقت نفسه: إحدى الطبيبات اكتشفت بأنها حامل وبالتالي أصبحت ممنوعة من المناوبات والعمل في العمليات ويجب قريباً أن ترتاح في المنزل، طبيبة أخرى تعرضت لحادث مع كسور متعددة واحتاجت إلى إجازة مرضية لا تقل عن ستة أشهر، طبيب آخر قدم استقالته لأنه سينتقل إلى مستشفى أكبر حيث هناك فرصة تنتظره.
عملياً بقي أربعة أطباء من أصل سبعة، والقسم يحتاج أصلاً إلى ثمانية أطباء، وبالتالي فنحن أمام عجز بمقدار النصف في عدد الأطباء. في هذه الحالة الشائعة كثيراً نتحدث عن حاجة ماسّة للأطباء في هذا القسم.
وهنا تأتي الفرصة الذهبية! إذا تقدم طبيب في هذا الوقت بالذات بطلب التوظيف إلى المستشفى فلن يضيعه رئيس القسم من يده، حتى ولو كان لا يزال جديداً ولغته الألمانية لا تزال متواضعة.
أما أهمية الخبرة والمؤهلات السابقة فهي تظهر حين لا تكون هناك حاجة ماسة للطبيب. خذ هذا المثال.
طبيب يعمل في قسم المسالك البولية في أحد الأقسام وسوف يختتم سنوات التخصص ويتقدم لامتحان التخصص في نهاية العام. بعد ذلك سوف يترك العمل في المستشفى وينتقل إلى مكان آخر.
في هذه الحالة يعرف رئيس القسم أنه سيخسر أحد الأطباء في نهاية السنة ويريد من الآن أن يعثر على الطبيب الأفضل لشغل مكانه. سيقوم رئيس القسم بنشر إعلان ربما قبل ستة أشهر للعثور على المرشح الأفضل. وسيتمكن بهدوء من اختيار من يجده مناسباً!
في هذه الحالة ستكون هناك منافسة كبيرة: الأفضلية بطبيعة الحال للطبيب المتخرج من ألمانيا بحكم لغته القوية ومعرفته بالنظام الطبي في ألمانيا وآلية العمل في المستشفى بدرجة أفضل بكثير من الطبيب الأجنبي.
بالنسبة للطبيب الأجنبي فإن الأولوية في اختيار المرشحين تقاس بناءً على المستوى اللغوي الذي يقدمه الطبيب في المقابلة وعلى الانطباع الإيجابي الذي يتركه فيما يتعلق بشخصيته ونشاطه وطموحه وقدرته على التواصل.
الخبرة الطبية السابقة في ألمانيا تلعب كذلك دوراً مهماً جداً للأطباء الأجانب، فالوظيفة الأولى هي دائماً الأصعب، أما العثور على وظيفة أخرى بعد ترك العمل الأول فهو أمر ليس بالعسير عادة. كما أن الخبرة السابقة خارج ألمانيا تلعب دورها في تحسين فرصة الحصول على عمل.
وأخيراً فإن هناك مؤهلات ثانوية تلعب دورها في جعل رئيس القسم يوظف طبيباً دون غيره، كأن تكون لدى الطبيب شهادات أكاديمية أخرى أو أن يتحدث الطبيب عدة لغات بطلاقة، أو أن تكون لديه أبحاث علمية منشورة.
إذا أتيت إلى ألمانيا فسوف تشاهد الكثير من الأطباء الألمان والأجانب الذي يبدؤون بالتخصص وعمرهم 35 سنة أو 40 سنة. فالعمر لا يشكل عائقاً للحصول على تخصص في ألمانيا. والكثير منهم ينهون تخصصاً معيناً ثم يبدؤون بتخصص آخر مختلف كلياً في عمر متقدم.
ولكن بشكل عام يميل رؤساء الأقسام لاختيار الأطباء الأصغر عمراً لشغل وظيفة الطبيب المساعد أو المقيم. السبب في ذلك هو أن الأطباء الأصغر لديهم طاقة أكبر ودافع أكبر وقدرة أكبر على تحمل ضغط العمل والمناوبات الليلية من الأطباء الأكبر عمراً.
نعود مرة أخرى إلى قصة ديمة. فإذاً ديمة لم تحصل على وظيفة أحلامها في قسم جراحة الأطفال، فلا توجد حاجة لها في القسم حالياً، كما أنها لا تمتلك ما يكفي من المؤهلات لتجعل رئيس القسم يوظفها.
عادت ديمة إلى شقتها خائبة وهي تفكر بعمق. إنها تحب هذه المدينة وترغب بالبقاء فيها ولا تريد الانتقال إلى مكان آخر.
فتحت ديمة جهاز الكمبيوتر وبدأت بالبحث في المواقع الإلكترونية للمستشفيات الأخرى الموجودة في المدينة. هل هناك قسم لجراحة الأطفال؟ لا يوجد، فهذا التخصص قليل وغير موجود في هذه المدينة إلا في المستشفى الجامعي، وهناك لا توجد فرص حالياً.
"ليست نهاية العالم! لم لا أجرب مبدئياً العمل في تخصص جراحي آخر؟" هكذا فكرت ديمة.
قررت أن تبحث مجدداً. دخلت إلى الموقع الإلكتروني الخاص بمستشفى صغير على طرف المدينة، وهناك وجدت إعلاناً لفرصة شاغرة في مجال جراحة البطن. إنهم يريدون طبيبين معاً، ولا بد أن هناك حاجة للأطباء هناك. ستجرب حظها مرة أخرى!
راسلت ديمة المستشفى، قامت بإجراء المقابلة، ووافق رئيس القسم على توظيفها! نعم. ستعمل الآن في المستشفى الصغير وتطور نفسها ريثما يصبح هناك شاغر في المستشفى الجامعي. ستسعى دائماً للحصول على الاختصاص الذي تحلم به!
لا يقتصر إجراء التخصص في ألمانيا على المستشفيات الجامعية أو المستشفيات التعليمية التي يتدرب فيها طلاب الطب، بل يمكن أن يجرى التخصص في أي مكان تقدم فيه الخدمات الصحية، وذلك بشرط أن يكون لديه ترخيص لتدريب الأطباء (Ermächtigung)خلال التخصص.
وهذا يعني أن التخصص يمكن أن يتم في مستشفى صغير الحجم أو متوسط الحجم. فهناك عدة أنواع من المستشفيات التي يمكن التخصص فيها مثل المستشفيات الحكومية والمستشفيات التابعة للشركات الخاصة أو التابعة للكنيسة والمستشفيات المحلية.
كما أن التخصص يمكن أن يتم بشكل جزئي في بعض العيادات الطبية المرخص لها بذلك. ويشترط كما ذكرنا أن تكون المستشفى أو العيادة مرخصة للتدريب في التخصص المذكور بإشراف نقابة الأطباء في الولاية.
لاحظ أن نفس الموضوع ينطبق على طلاب كلية الطب كما تحدثنا في مقالة نظام دراسة الطب في ألمانيا، حيث يمكن لهم التدريب في العيادات والمستشفيات التعليمية والجامعية. ولكن المستشفيات القادرة على منح التأهيل التخصصي لا تزال أكثر عدداً، حيث يمكن ذلك حتى في المستشفيات الصغيرة.
لنقل إن الطبيب عثر على عمل في عيادة طبيب عام لا يمتلك ترخيصاً بتدريب الأطباء، أو ربما في مستشفى صغير متخصص بعمليات الجراحة التجميلية ولكنه لا يمتلك اعترافاً من نقابة الأطباء بإمكانية تقديم التدريب التخصصي للأطباء الجدد. ماذا يحدث في هذه الحالة؟
هنا يمكن للطبيب الأجنبي الحاصل على ترخيص العمل أن يعمل في العيادة بدون أي مشكلة. ولكن هذا العمل يعتبر مجرد خبرة عملية في ألمانيا. وهو لن يحتسب من فترة التخصص نظراً لأن هذه العيادة لا تعتبر مكاناً مؤهلاً لتدريب الأطباء ليصبحوا أطباء اختصاصيين.
نعود إلى ديمة. داومت ديمة على العمل بنشاط في قسم جراحة البطن في المستشفى الصغير وطورت نفسها بشكل سريع. بعد عدة أشهر تحسنت لغتها وأصبحت قادرة على إدارة العمل في أجنحة المرضى وقسم الإسعاف وعلى القيام ببعض الإجراءات الجراحية بنفسها.
استمرت ديمة خلال هذه الفترة بمتابعة الإعلانات على الموقع الإلكتروني الخاص بالمستشفى الجامعي. وفجأة شاهدت ما كانت تنتظره: إعلان عن حاجة المستشفى الجامعي لطبيب مقيم في قسم جراحة الأطفال.
أرسلت ديمة طلب توظيف جديد وتمت دعوتها إلى مقابلة لدى نفس الشيف السابق. أعجب الشيف بإصرارها وبالتحسن الكبير الذي طرأ على مستواها اللغوي والعلمي. أخيراً حصلت ديمة على عقد العمل في المستشفى الجامعي يبدأ اعتباراً من بداية العام التالي.
وهكذا قدمت ديمة استقالتها من المستشفى الصغير لتترك العمل فيه بعد أن حصلت على شهادات الخبرة اللازمة. وفي بداية السنة بدأت عملها في اختصاص جراحة الأطفال.
في الواقع، إمكانية تغيير التخصص وكذلك مكان العمل بسهولة وبدون تعقيدات إدارية هي من أهم ميزات التخصص والعمل الطبي في ألمانيا، حيث تعطي مرونة كبيرة للطبيب في التوجه نحو ما يرغب به.
ويمكن في كثير من الأحيان احتساب فترة التدريب من تخصص آخر مما يؤدي إلى اختصار فترة التخصص الإجمالية، وهي إحدى الميزات المهمة في ألمانيا، حيث شرحنا ذلك بالتفصيل في المقالة حول تجميع مدة التخصص في ألمانيا.
كيف ستسير الأمور بعد ذلك؟ سنتابع مراحل فترة التخصص في ألمانيا والخطوات التي يمر بها الطبيب خلال ذلك في مقالة منفصلة.
في الكثير من الدول العربية والغربية يكون برنامج التخصص ثابتاً: يحصل الطبيب على مقعد للتخصص في مجال معين، ولا يسمح له بتغييره، ويتوجب أن يتم فترة التخصص كاملة من بدايتها إلى نهايتها في مستشفى واحد أو ربما أيضاً في بضعة مستشفيات تابعة له.
في ألمانيا الوضع مختلف. التخصص يتم من خلال عقد عمل. هذا العقد يمكن فسخه في أي وقت ضمن شروط معينة ومع الالتزام بفترات زمنية معينة. ويمكن في أي وقت تغيير مكان العمل أو حتى تغيير الاختصاص بشكل جذري بدون أي مشكلة أو صعوبات. ويمكن إنهاء العمل الأول في آخر يوم في الشهر وبدء العمل الثاني في اليوم الأول من الشهر التالي بدون أي انقطاع.
وفي هذه الحالة يحصل الطبيب على شهادات بالخبرات التي تم اكتسابها والفترة التي تم التخصص خلالها بحيث تحتسب من ضمن فترة التخصص. وحتى في حال تغيير التخصص فيمكن أيضاً احتساب جزء من الفترة ضمن تخصص آخر.
وفي نهاية فترة التخصص يقدم الطبيب جميع شهادات الخبرة التي حصل عليها خلال رحلة التخصص إلى نقابة الأطباء، ولو كانت من أكثر من مستشفى. وهناك تتم دراستها والتأكد من أن الطبيب قد حقق فترة التدريب المطلوبة.
نختتم المقالة بهذا الفيديو الظريف الذي يتحدث عن قصة جيسيكا ويشرح مسيرة الطبيب من التخرج حتى التخصص بشكل مبسط خلال ثلاث دقائق. الفيديو بالألمانية ويمكنك تفعيل الترجمة بالعربية من خيارات الفيديو.
في هذه المقالة قدمت لكم فكرة عامة عن طريقة الدخول في نظام التخصص الطبي في ألمانيا سواءً بالنسبة للأطباء المتخرجين من جامعات ألمانية أو الأطباء الذين تخرجوا من جامعات خارج ألمانيا.
يجرى التخصص الطبي في ألمانيا من خلال عقد بين الطبيب والمستشفى. يقوم الطبيب بتسيير العمل في المستشفى تحت إشراف الأطباء الأقدم ويحصل على راتب. في مقابل ذلك يتوجب على القسم تأمين التدريب النظري والعملي اللازم للطبيب.
يتم الدخول في نظام التخصص من خلال البحث عن الفرص الشاغرة ومراسلة الأقسام التي تحتاج إلى أطباء. في حال اجتياز المقابلة بنجاح يمكن للطبيب توقيع عقد العمل والبدء بالتخصص.
إذا كانت لديكم المزيد من التساؤلات حول هذا الموضوع فيمكنكم طرحها على صفحات التواصل الاجتماعي. إذا كان لديكم أي تصحيح أو تحديث للمعلومات المذكورة في هذه المقالة فنرجو التواصل معنا مباشرة.